الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد:
( العلاقة بين الأحرف السبعة والقراءات العشر المتواترة )
القراءات العشر التي يَقرأُ الناس بها اليوم، وصحت روايتها عن الأئمة، هي جزء من الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن، ووافق اللفظُ بها خطَّ مصحف عثمان بن عفان، الذي أجمع الصحابة ومن بعدهم عليه.
تفصيل الإجابة:
إن إدراك العلاقة بين الأحرف السبعة يتطلب معرفة المقصود من الأحرف السبعة، والمقصود من القراءات.
أما المقصود من الأحرف السبعة، ففيه أقوال كثيرة، وكثير منها لا يسلم من النقاش؛ لهذا سأختار أحد أشهر الأقوال التي رجَّحها كثير من أهل العلم، في تحديد العلاقة بين الأحرف السبعة والقراءات.
أولاً: الأحرف السبعة:
هي سبعة أوجه فصيحة من اللغات والقراءات أنزل عليها القرآن الكريم. (1)
– فالأحرف السبعة، هي وجوه متعددة متغايرة منزَّلة من وجوه القراءة، يمكنك أن تقرأ بأي منها فتكون قد قرأت قرآناً منزَّلاً، والعدد سبعة مقصودٌ ومراد؛ بمعنى: أن أقصى حدٍّ يمكن أن تبلغه الوجوه القرآنية المنزّلة هو سبعة أوجه، وذلك في الكلمة القرآنية الواحدة، ضمن نوعٍ واحد من أنواع الاختلاف والتغاير، ولا يلزم أن تبلغ الأوجه هذا الحد في كلّ موضع من القرآن». (2)
والأصل في الأحرف السبعة ما رواه الشيخان عن أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه قال: سَمِعْتُ هِشَامَ بْنَ حَكِيمٍ يَقْرَأُ سُورَةَ الْفُرْقَانِ فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَاسْتَمَعْتُ لِقِرَاءَتِهِ، فَإِذَا هُوَ يَقْرَأُ عَلَى حُرُوفٍ كَثِيرَةٍ لَمْ يُقْرِئْنِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكِدْتُ أُسَاوِرُهُ فِي الصَّلَاةِ، فَتَصَبَّرْتُ حَتَّى سَلَّمَ، فَلَبَبْتُهُ بِرِدَائِهِ فَقُلْتُ: مَنْ أَقْرَأَكَ هَذِهِ السُّورَةَ الَّتِي سَمِعْتُكَ تَقْرَأُ؟ قَالَ: أَقْرَأَنِيهَا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: كذبت، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد أَقْرَأَنِيهَا عَلَى غَيْرِ مَا قَرَأْتَ، فَانْطَلَقْتُ بِهِ أَقُودُهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم، فقلت: إِنِّي سَمِعْتُ هَذَا يَقْرَأُ بِسُورَةِ الْفُرْقَانِ عَلَى حروف لم تقرئنيها، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “أرسله، اقْرَأْ يَا هِشَامُ”. فَقَرَأَ عَلَيْهِ الْقِرَاءَةَ الَّتِي سمعته يقرأ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “كذلك أنزلت”. ثم قال: “اقرأ يا عمر”. فقرأت القراءة التي أقرأني، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “كَذَلِكَ أُنْزِلَتْ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَى سبعة أحرف، فاقرؤوا ما تيسر منه”. (3)
وعَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ؛ أَنّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ عِنْدَ أَضَاةِ بَنِي غِفَارٍ. قَالَ فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَام، فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكَ أَنْ تَقْرَأَ أُمَّتُكَ الْقُرْآنَ عَلَى حَرْفٍ. فَقَالَ “أَسْأَلُ اللَّهَ مُعَافَاتَهُ وَمَغْفِرَتَهُ وَإِنَّ أُمَّتِي لَا تُطِيقُ ذَلِكَ”. ثُمَّ أَتَاهُ الثَّانِيَةَ، فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكَ أَنْ تَقْرَأَ أُمَّتُكَ الْقُرْآنَ عَلَى حَرْفَيْنِ. فَقَالَ “أَسْأَلُ اللَّهَ مُعَافَاتَهُ وَمَغْفِرَتَهُ، وَإِنَّ أُمَّتِي لَا تُطِيقُ ذَلِكَ”. ثُمَّ جَاءَهُ الثَّالِثَةَ فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكَ أَنْ تَقْرَأَ أُمَّتُكَ الْقُرْآنَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَحْرُفٍ. فَقَالَ “أَسْأَلُ اللَّهَ مُعَافَاتَهُ وَمَغْفِرَتَهُ. وَإِنَّ أُمَّتِي لَا تُطِيقُ ذَلِكَ”. ثُمَّ جَاءَهُ الرَّابِعَةَ فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكَ أَنْ تَقْرَأَ أُمَّتُكَ الْقُرْآنَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ. فَأَيُّمَا حَرْفٍ قَرَأوا عَلَيْهِ، فَقَدْ أَصَابُوا”. (4)
دلت الأحاديث السابقة على أن الأحرف السّبعة، جميعها قرآنٌ أنزله الله تعالى على نبيّه صلى الله عليه وسلم، وليست اجتهاداً، وأن الحكمة من إنزالها هو التوسعة على الأمة، ورفعُ الحرج عن التّالين من أصحاب الألسنة المختلفة، وأنها تتعلق بوجوه أداء الألفاظ، وكيفية قراءتها، ولا علاقة لها بالمعاني. (5).
أما تعريف القراءات:
فهي مذهب يذهب إليه إمام من أئمة القراءة مخالفاً به غيره في النطق بالقرآن الكريم، مع اتفاق الروايات والطرق عنه، سواء أكانت هذه المخالفة في نطق الحروف أم في نطق هيئاتها.(6)
وعرف ابن الجزري القراءات بأنها: علمٌ بكيفيات أداء كلمات القرآن واختلافها بعزو الناقلة». (عزو الناقلة): أي أن هذا العلم ثابت بالنقل الثابت المتواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم.(7)
أما العلاقة بين الأحرف السبعة والقراءات:
فلفهمه لا بد من النظر والمقارنة بين عملية جمع القرآن في عهد أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه، وجمع القرآن في عهد عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه.
أما جمع القرآن في عهد أبي بكر رضي الله عنه:
فكان بسبب خوف الفاروق عمر رضي الله عنه ذهابَ القرآن باستشهاد حفَّاظه؛ فأمر أبو بكر رضي الله عنه زيدَ بنَ ثابت رضي الله عنه
– وكان من حفاظ القرآن، وكتاب الوحي، وهو ممن شهد العرضة الأخيرة للقرآن الكريم – أن يجمع القرآن.
وقد كان القرآن في عهد أبي بكر مجموعاً في مصحف واحد مرتبِ الآيات، مشتملا على الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن. (8)
أما جمع القرآن في عهد عثمان بن عفان:
فقام عثمان رضي الله عنه بجمع الناس على الأحرف الثابتة عن النبي صلّى الله عليه وسلم، في العرضة الأخيرة، برسم واحد في غالبه، على حرفِ ولغة قريش، يحتمل الأوجه المختلفة، واطَّرَحَ ما سواها؛ لكونه نُسخ في العرضة الأخيرة. (9)
– وبالمقارنة بين عمل أبي بكر وعمل عثمان؛ نصل إلى نتيجة مفادها: أن الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن الكريم، قد نُسخ شيء منها في العرضة الأخيرة، وأن القراءات العشر المتواترة، هي جملة ما بقي من الأحرف السبعة، وهو الصورة النهائية لكتاب الله عز وجل.
وهذه جملة من أقوال العلماء تؤكد هذا وتثبته:
– قال البغوي: “جمع الله تعالى الأمةَ بحُسن اختيار الصحابة على مصحف واحد، وهو آخر العرضات على رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وكان أبو بكر الصديق رضي الله عنه أمر بكِتْبَتِهِ، جمعًا بعد ما كان مفرقاً في الرقاع؛ ليكون أصلاً للمسلمين يرجعون إليه ويعتمدون عليه، وأمر عثمانُ رضي الله عنه بنسخه في المصاحف، وجمعَ القومَ عليه، وأمر بتحريق ما سواه؛ قطعاً لمادة الخلاف، فكان ما يخالف الخطَّ المتفق عليه في حكم المنسوخ والمرفوع، كسائر ما نُسخ ورفع منه باتفاق الصحابة، والمكتوبُ بين اللوحين هو المحفوظ من الله عز وجل للعباد، وهو الإمام للأمة … ». (10)
– وقال ابن الجزري: «إن المصاحف العثمانية لم تكن محتوية على جميع الأحرف السبعة التي أبيحت بها قراءة القرآن، كما قال جماعة من أهل الكلام وغيرهم، بناءً منهم على أنه لا يجوز على الأمة أن تهمل نقلَ شيء من الأحرف السبعة»…. وقال: «لأننا إذا قلنا: إن المصاحف العثمانية محتوية على جميع الأحرف السبعة التي أنزلها الله تعالى؛ كان ما خالف الرسم يَقطعُ بأنه ليس من الأحرف السبعة، وهذا قول محظور؛ لأن كثيرًا مما خالف الرسم قد صح عن الصحابة رضي الله عنهم، وعن النبي صلّى الله عليه وسلم». (11)
– وقال الشيخ عبد العزيز القارئ: السبب في ذلك: أن بعض أفراد الأحرف السبعة نُسخت تلاوته في العرضة الأخيرة، فلم يُقرئ به رسول الله صلّى الله عليه وسلم بعدها؛ فلا يعتبر بعد ذلك قرآنا؛ ولذا لم يُكتب في المصاحف العثمانية؛ لأن عثمان رضي الله عنه ورهطه رضوان الله عليهم كانوا يتحرون كتابة ما ثبت في العرضة الأخيرة … والحق الذي يعرفه كل محقق، أن ما أُثبت في هذه العرضة من أحرف القرآن، والذي يمثل الصيغة الكاملة الأخيرة للقرآن قد كُتب كلُّه في المصاحف العثمانية، ولم يُترك منه شيء، وقد اتفق المحققون على أن ما رواه الأئمة العشرة (أصحاب القراءات) قد استوعب كل هذه الأحرف، واتفقوا على أن ما رواه غيرهم زائدًا على ما رووه بجملتهم إما شاذٌّ أو منكرٌ أو ضعيف أو موضوع» (12)
– وقال ابن الجزري: «إن في العشرة بعض الأحرف السبعة، وأنها متواترة أصولاً وفرشًا … (13)
– وقال أيضاً: «وقول من قال: إن القراءات المتواترة لا حدَّ لها، إن أراد في زماننا فغير صحيح، لأنه لا يوجد اليوم قراءة متواترة وراء العشر، وإن أراد في الصدر الأول، فيحتمل إن شاء الله». (14)
– وقال الإمام مكي بن أبي طالب: «إن هذه القراءات كلُّها التي يَقرأُ بها الناس اليوم، وصحت روايتها عن الأئمة إنما هي جزء من الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن، ووافق اللفظ بها خط المصحف، مصحف عثمان الذي أجمع الصحابة ومن بعدهم عليه، واطّرح ما سواه مما يخالف خطه … وجمع المسلمين عليها، ومنع من القراءة بما خالف خطها، وساعده في ذلك زهاء- أي قدر- اثني عشر ألفاً من الصحابة والتابعين، واتبعه على ذلك جماعة من المسلمين بعده، وصارت القراءة عند جميع العلماء بما يخالفه بدعةً وخطأً، وإن صحت ورويت» (15).
– وقال الإمام البغوي أيضاً: «المصحف الذي استقر عليه الأمر هو آخر العرضات على رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فأمر عثمان بنسخه في المصاحف وجمع الناس عليه، وأذهب ما سوى ذلك؛ قطعاً لمادة الخلاف؛ فصار ما يخالف خط المصحف في حكم المنسوخ والمرفوع، كسائر ما نُسخ ورفع، فليس لأحد أن يعوِّل في اللفظ على ما هو خارج عن الرسم» (16)
– وقال أبو العباس أحمد بن عمار المهدوي المقرئ (ت 440): «أصح ما عليه الحذاق من أهل النظر في معنى ذلك أن ما نحن عليه في وقتنا هذا من هذه القراءات هو بعض الحروفى السبعة التي نزل عليها القرآن». (17)
– وقال أبو شامة: «إن هذه القراءات التي نقرؤها هي بعض من الحروف السبعة التي نزل عليها القرآن، استعملت لموافقتها المصحف الذي اجتمعت عليه الأمة، وترك ما سواها من الحروف السبعة لمخالفته لمرسوم خط المصحف؛ إذ ليس بواجب علينا القراءة بجميع الحروف السبعة التي نزل عليها القرآن، وإذ قد أباح النبي صلّى الله عليه وسلم لنا القراءة ببعضها دون بعض، لقوله تعالى: (فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ) [المزمل: 20]، فصارت هذه القراءة المستعملة في وقتنا هذا هي التي تيسرت لنا بسبب ما رواه سلف الأمة رضوان الله عليهم من جمع الناس على هذا المصحف، لقطع ما وقع بين الناس من الاختلاف، وتكفير بعضهم لبعض» ().أبو شامة، المرشد الوجيز، ص 141 – 142.
وأخيراً:
ما نقرأ به اليوم هو بعض الأحرف السبعة؛ وذلك أن عثمان رضي الله عنه حين جمع القرآن جعل إمامه في ذلك الصّحف الّتي جُمعت في عهد الصّدّيق رضي الله تعالى عنه، وأمر الكتّاب أن يصيروا فيما اختلفوا فيه عند الكتابة إلى لغة قريش، فتكون فصلاً بينهم، وكلّ حرف لا يأتي على موافقة الرّسم – وإن كان من السّبعة – لم يكتبوه في المصحف؛ لأنّ الصّحابة أدركوا المعنى الّذي لأجله أنزل القرآن على سبعة أحرف، وهو التّيسير على التّالين، وأنّه ما من حرف إلّا وهو على وفاق الآخر في معناه، ورأوا بعدَ النّبيّ صلى الله عليه وسلم ابتداء ظهور اختلاف الأمّة بسبب ذلك، كما رأوا أن العلّة في اختلاف الأحرف الّتي هي التّيسير على الأمة، قد زالت، وبدأ يَحُلُّ محلّها فُرقةٌ وفتنة، فدرأوا تلك الفتنة بحفظ القرآن مجموعاً على رسم واحد عُمّم على جميع عواصم الدّولة الإسلاميّة، وبقي من تلك الأحرف ما يتّفق في الرّسم مع المصحف الإمام (مصحف عثمان). والقراءات اليوم هي جزء من الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن، ووافق اللفظ بها خط المصحف، مصحف عثمان الذي أجمع الصحابة ومن بعدهم عليه.. وبناءً عليه: فالأحرف السبعة أعم، والقراءات العشر المتواترة أخص.
وبعبارة مختصرة نقول: «كل قراءة صحيحة متواترة هي من الأحرف السبعة، وليس كل شيء من الأحرف السبعة متواتراً؛ لكونه قد نُسخ شيءٌ منها (من الأحرف السبعة) في العرضة الأخيرة؛ لعدم الحاجة إليها، فالتيسير والسهولة حاصل بما بقي.(18) والله تعالى أعلم
وصلى الله على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
بقلم فضيلة الشيخ /
أنس الموسى بن محمد بشير